Twitter Bird Gadget
لعبة المزرعة السعيدة لعبة الفراخ

كلم نفسك


الإنسان يكلم نفسه!

تلك حقيقة واقعة، ليس شرطًا أن يكون كلامًا باللسان لكنه حديث النفس الداخلي الذي لا يخلو منه إنسان، أسئلة وإجابات تطرح، آمال وأحلام تتشكل، أحزان وذكريات تسترجع، أفكار وخطرات، لمحات ولفتات، صرخات وهمسات، تمر جميعها بالذهن ولا يخلو منها يوم من أيام عمر الإنسان القصير. مشاعر متباينة تضطرم داخل النفس؛ غضب وفرح، كره وحب، وأحيانًا حقد وغل وحسد!

خليط رهيب من كل ما سبق من الكلمات والعبارات تتشاجر أحيانًا، وتتضافر أحيانًا أخرى، وتتجمل أحيانًا، وتكذب على بعضها، وقد تتراشق وتتكشف فاضحة نفسها أمام نفسها؛ لكنها في النهاية تظل داخل صدور لا يعلم ذاتها إلا الله، ويظل اضطرامها داخل النفس عاملًا مهمًّا من عوامل إكمال الحياة.

نعم، هذا الحديث يعتبر في الحقيقة من أهم وسائل العون واستمرار المسير في رحلة العيش، تخيل لو أنها كانت نفسًا صامتة لا تتحدث ولا تتجاوب ولا تلوم أو حتى تبرر، حينئذ لن تكون نفس إنسان، ستكون في تلك الحالة نفسًا مصمتة ويكون صاحبها أشبه بـ(الروبوت) أو الإنسان الآلي، وليست هذه هي النفس المطمئنة التي ذكرت في القرآن بل هي نفس متحجرة جامدة.

أو تخيل العكس.. نفس متجبرة متسلطة تبرز كل عيب و(تبروزه) في إطار ظاهر، وتجلد صاحبها عليه باستمرار، موجهة إليه شتى أنواع الإهانات والبذاءات، إنها حينئذ نفس كئيبة مدمرة، وليست هذه هي النفس اللوامة المحمودة بل هي نفس جلادة سادية تهوى العذاب والتعذيب؛ لكن أغلب الأنفس ليست كذلك.

أغلب الأنفس تحدث نفسها حديثًا مختلفًا، تستطيع معه العيش والتعايش مع نقصها وزللها وخطئها؛ فإن لم تتعاظم جدًّا فيكون حديثها مع نفسها كله تعظيمًا ومدحًا وتمجيدًا، كما في حال الأنفس المغرورة المتكبرة لأولئك الذين يرون أنفسهم هدية ينبغي على البشرية أن تفرح بكل سكنة من سكناتهم، وتسعد بكل حركة تصدر منهم؛ فإن جل النفوس الباقية تصل في مرحلة ما إلى التبرير أو التسويغ أو التمرير لما تفعله من أخطاء أو خطايا.

حتى لو صارحت نفسها بالخطأ ولامت نفسها عليه وربما تابت عنه (وتلك هي النفس الصالحة اللوامة) فإنها في النهاية لا بد أن تعبر وأن تتجاوز ذلك الخطأ أو الخطيئة لتكمل الحياة، فتحدث نفسها حينئذ بالرجاء والأمل في الرحمة، وربما تزين أحيانًا ما حدث بدعاوى الاضطرار والضعف الإنساني، أو تستدعي نماذج المخطئين من هنا أو هناك؛ لترى نفسها مثلهم أو أفضل حالًا منهم.

المهم أنها ستصل إلى اتفاق في هذا الحوار الداخلي يجعلها تكمل، ربما يكون اتفاقًا سديدًا موفقًا يذهب بها إلى راحة النفس الصالحة المطمئنة، وربما تكون اتفاقيات مبنية على الكذب والتجمل الذي تلجأ إليه كما قلنا لتستطيع الإكمال. المحصلة النهائية أن الكل يتحدث مع نفسه ويحاورها، ويصل معها إلى اتفاق ما، وهذا الحوار لا يسمعه أو يعلمه أحد غيره إلا الله.

لكن حينما تتجاوز تلك المفردات حاجز الصدور، وتخرج إلى الملأ لتتفاعل مع بعضها البعض عيانًا بيانًا =فإن ذلك مؤشر خطير؛ بل ربما يعده البعض نوعًا من الجنون، تخيل واحدًا يمشي يكلم نفسه، يتشاجر معها، يلومها ويبوخها؛ فترد نفسه عليه بتقريع مقابل، صوتهما يعلو على بعضهما البعض، الخناقة تشتد بينه وبين نفسه، ثم يعود فيمدحها ويثني عليها ويمجد أفعالها أو يبررها ويسوغها. ماذا ستقول حينئذ عنه؟ جن جنونه، فقد عقله، أعصابه أنهكت وخرج عن شعوره، وربما كل ذلك.

للأسف، هذا النموذج الجنوني هو الغالب على واقع العمل العام هذه الأيام، الكل تقريبا يكلمون أنفسهم، يخاطبون قواعدهم، لا تكاد تجد أحدًا يخاطب إلا أتباعه، أو أحدًا يسمع إلا موافقيه، ولا أحد تقريبًا مستعد لتغيير رأيه، أو خلع النظارة التي يزوده بها متبوعه ويحرص تمام الحرص على أن يظل مرتديًا إياها، لا يرى الدنيا إلا من خلال عدساتها، لست أعني واحدة من تلك النظارات التي نعرفها اليوم سواء الطبية منها أو الشمسية، إنما أعني تلك النظارة التي يرتديها المرء فتصبغ حياته ورؤيته وفهمه بلونها، فلا يرى الأشياء إلا من خلالها، ولا يحكم على الأمور إلا بقتامتها التي تحجب عنه تفاصيل وحقائق واضحات بينات لكل من لم يرتديها، تلك النظارة التي تتعاظم وتتضخم أحيانًا لتتحول دون أن يشعر مرتديها إلى سجن كبير، لا يرى الدنيا إلا من خلال نافذته الضيقة التي يقبع أسيرًا خلف قضبانها الباردة.

وأسر الأفكار كثيرًا ما يكون أشد إحكامًا من أسر الأسوار، ولربما تكون قضبان الجهل والتأول أصلب ألف مرة من قضبان السجون، لكن سجين الفكرة ربما لا يدرك أبدًا أنه سجين! بل قد يظل حبيسًا خلف قضبان تلك الأفكار التي تتملكه، دون أن يدرك -ربما لأعوام- أنه كان ينظر إلى الدنيا من خلال نافذة زنزانة تلك الفكرة أو من خلف زجاج نظارتها المعتمة، ويصم أذنيه إلا عن صوت من ألبسه إياها، صوت نفسه.

وقد تملك بعض الأفكار والتصورات والمشاعر على المرء حياته، فلا يتصور العيش إلا من خلالها، ولا يمكنه التنفس إلا في أعماقها، حتى إذا هبت عليه نفحة من نسيم مختلف، حبس أنفاسه خشية أن يختنق، حتى لو كان هذا نسيمًا عليلًا نظيفًا، يكفي أنه مختلف كي لا أستنشقه!

كذلك فعل قوم نوح، وضعوا أصابعهم في آذانهم، ورفضوا أن يسمعوا، واستغشوا ثيابهم وأبوا أن يروا، وأصروا واستكبروا استكبارًا!
وكذلك فعل الضلال في كل زمان ومكان حينما جاءتهم رسلهم بالبينات، فردوا أيديهم في أفواههم، ورفضوا أن يفتحوا الأبواب والنوافذ ليدخل الضياء إلى القلوب والعقول، أو يخلعوا النظارات ليروا الدنيا بألوانها الطبيعية.. والحقيقية.

ولو أن أحدهم أقدم وقرر يومًا أن يفعل، فيخلع النظارة ليرى الحياة بلونها الحقيقي، فسيدرك حينئذ الفارق الهائل بين وضوح الصورة ونقاوتها بدون النظارة، التي لونت حياته دون أن يشعر، حين كان حبيسًا خلف زجاجها القاتم، وقابعًا بين أسوار سجنها المظلم، الذي لم يفترض ولو للحظة أنه صواب يحتمل الخطأ، وأن غيره خطأ يحتمل الصواب.

لكن كثيرًا من الناس للأسف يستسلمون لذلك الأسر، ويصرون على ارتداء تلك النظارات التي تلون أحكامهم، والسماعات التي تسيطر على تقديراتهم لكل شيء، نظارات الحب الوردية التي تزين كل سوءة وتجمل كل قبيح، أو نظارات الكراهية السوداء الداكنة التي تنفي كل فضل وتنسب كل شر لم يُنظر إليه بتلك النظارة القاتمة، نظارات التعصب وسماعات الهوى، نظارات الشهوة وسماعات الشبهة، وما أكثر النظارات وما أشد سماكة السماعات!

في حافلة تزدحم بمجموعة متباينة من الأشخاص من مختلف الجنسيات، والأعراق، والألوان؛ كانت رحلة عودتي إلى مخيمات مِنى؛ بعد أداء طواف الإفاضة، وسعي الحج منذ عدة أعوام.
جاء مجلسي فى تلك الحافلة إلى جوار مجموعة من الحجاج الصينيين، وحاج نيجيري، وآخر عراقي. ظل الأخوة الصينيون طوال الطريق يتكلمون معي في حماسة بالغة، ويحاولون بإصرار عجيب إفهامي شيئًا ما لم أدرك ماهيته إلى اليوم!

وأنا أحاول إقناعهم -دون جدوى- أنى لا أفقه حرفًا من لغتهم؛ بينما يُلح علينا "التبَّاع" اليمني كي نساعده في إفهامهم قيمة الأجرة التي حاولنا جاهدين أنا والأخ العراقي والأخ النيجيري بيانها لهم بلا فائدة.

استمر الحوار المحتدم، والصياح المتبادل، لأكثر من ساعتين، حتى وصلنا إلى أرض مِنى، ولم يفهم أي منا الآخر. يومها تذكرت تلك المقولة العبقرية التي تُذكر حين يعجز كل طرف عن فهم الآخر، فيُطلق على حوارهم "حوار الطرشان".

تلك الصورة الهزلية لمجموعة من الصُم الذين يكلم كل منهم الآخر بحماسة شديدة تبدو أماراتها على قسماتهم، وتدفع كلًّا منهم للصياح بأعلى صوت ممكن في أذن محاوره، الذي لا تغادر اللا مبالاة وجهه؛ حتى إذا جاء دوره ليتكلم صاح بحماسة لا تقل عن حماسة الأول، الذي تنتقل إليه على الفور حالة اللامبالاة إياها، وهو معذور؛ فإنه ببساطة لا يسمع!

لا يسمع إلا جهة بعينها، فهمه ليس منضبطًا إلا على موجة واحدة، موجة موافقيه، نفسه تكلمه ويكلمها وحسب.

نفس الأحداث، ونفس الممارسات، ونفس المواقف تجدها في رواية بصياغة، وفي رواية أخرى بصياغة مضادة تمامًا، لا بد في كل حادث أو موقف أو خيار أن تكون هناك رواية ورواية مضادة ترددها القواعد ويقنعون أنفسهم من خلالها أنهم دومًا مظلومون مضطهدون، ملائكة في مقابل شياطين.

فهذا الحزب يخاطب قواعده ويقنعهم أن قراراته لا مثيل لهاـ وأنه هو الحزب الأعظم في تاريخ البشرية، وأنه الحريص الوحيد على مقدرات البلاد والقارئ الفريد لمناطات الاضطرار والحاجة والمتاح والممكن، وأنه هو المحافظ على الشريعة في كل حال، والحاقن الأوحد للدماء.
فمن يفهم تلك التوجيهات (العكاشية) اللوذعية التي تصدع كل مساء، محذرة من الماسونية الإرهابية، ومن يتحمل صرخات تلك المذيعة العصبية، أو نرفزات وبذاءات زوجها السوقية، أو لا يمل من هدوء أخيه المحنك، إلا أتباعهم ومعجبوهم على أريكتهم الوثيرة، التي على ظهرها المريح يقبلون ويتحملون كل ذلك، ويفهمون ويدركون مغزاها ومدلولها؛ فالرسائل موجهة لهم هم، وهم وحدهم.
ومن آن إلى آخر وعبر الأثير، سيرسل المغرد سؤاله الشهير الذي يثبّت به أتباعه المخلصين، قائلًا: هل هناك دولة؟! وسيدركون جميعًا المغزى، ويهللون ويرددون صيحات الإعجاب بتلك السنين الضوئية التي يسبق الجميع بها، ولن يفرق معهم بعد ذلك حتى لو ظل حبيس التغريدات وكأن شيئًا لم يتغير وكأن ثورة لم تقم.

حتى من هم أصحاب قضية عادلة كثير منهم للأسف يخاطب نفسه وحسب؛ إذ لا يتصور مطلقًا أن قناعة مخلوق ستتغير، أو سيتم تصحيح فكرة أو وعي، أو الترسيخ لمبدأ أو حق، حين يقال في ختام تلك التوعية أو الدعوة أو النصيحة كلمات من نوعية: (هز ديلك) أو (اشرب برسيم)، أو بصب اللعنات على المنصوح والمدعو.

وحين تنصح بتغيير الخطاب لتنجح التوعية وتظهر عدالة القضية، تجد حقيقة أن الخطاب ليس توعية ولا يحزنون، وأن الأمر في كثير من الأحيان ما هو إلا حديث نفس لتثبيت القواعد، أما الآخرون ففي نظرهم لا فائدة أصلًا منهم، وكأنهم قد حكموا بمآلهم ومصيرهم.

الكل في النهاية -إلا من رحم الله- يسقي أتباعه ومؤيديه جرعة التثبيت، ويعطيهم الرواية التي تناسبهم، والاجابة التي تجعلهم ينامون مرتاحي البال، بعد أن يحفظوا تلك الإجابة التي لقنتها لهم أنفسهم -أقصد فئتهم أو نوعهم أو فصيلهم أو حزبهم- ثم يضعونها (كوبي وبيست) عند خصومهم ومخالفيهم، وطبعًا خصومهم لن يقرأوها لأنهم يرتدون نظارات من لون آخر، وهم أيضًا مضبوطون على موجة معينة لكن مختلفة، ولابد لكي تكلمهم أن يكون ذلك من خلال تلك الموجة، وتعطيه الرواية التي يصح معها أن تقول إنه يكلم نفسه، ونفسه ترد عليه.

بذلك تثبت القواعد، نعم؛ لكن كل قاعدة تظل على جزيرتها المنفصلة التي تتباعد باستمرار عن الجزر الأخرى، وتتقطع باستمرار مع هذا التباعد كل خطوط التواصل المحتملة، وكل فريق يستعمل نفس الحالة أو الموقف فى نصرة فكرته، وزيادة درجة العتمة على زجاج النظارات الداكنة التي يسيطر بها على رؤية أتباعه ومريديه وموافقيه، أو مضاعفة سُمك السماعة التي تعزل سمع مؤيديه ومحبيه.

ورغم أن الصوت عالٍ، إلا أنه من النادر أن تجد أحدًا يسمع أو يعقل في كل تلك الضوضاء، اللهم إلا من مصدر واحد فقط في النهاية:
نفسه، تكلمه ويكلمها..

0 التعليقات :

جامعة دمياط

لعبة من سيربح المليون لعبة زوما